بدأت القصة في محطة قطار.. والناس وقوف ينتظرون القطار القادم في طريقه وهم بين مودِّع وحاملٍ أمتعته ومتأهبٍ لركوب القطار وفي وسط هذا الزحام، راع الناسَ صياحٌ وصراخٌ ومُشادَّةٌ ومدافعةٌ، فالتفت الكل فإذ بفتاة في السابعة عشرة من عمرها يسوقها شرطي عتيدٍ شديد وساعٍ من سعاة إحدى السفارات ومن خلفهم عجوز أوروبي تجاوز الستين مهمومٌ مهزولٌ، وهي تدافع الرجلين بكل قوتها الضعيفة حتى أقبل القطار فكاد كلٌّ ينسى بذلك الموقفِ موقفَهُ ثم أُصعدت الفتاةُ وصعد الركابُ , كل ذلك والفتاة في حزن وكرب لا يَجْمُلُ معه الصبر ، ولا يُحمَدُ الصمتُ .
سأل أستاذ قدير ذلك العجوزَ الأوروبيَّ ما خطبُهُ وما أمرُ هذه الفتاة ؟
فرد وقد أشرقَهُ الدمعُ وقطع صوتَه الأسى: أنه رجل أسباني نصراني وهذه الفتاة ابنته ، ومنذ فترة حصل لها ما لم يتوقعه ، ففي يوم من الأيام صحى ذات صباح على صوت ابنته ,وهي تصلي صلاة المسلمين ، وفي نفس ذلك اليوم فصلت ثيابها عن ثياب أسرتها لتتولى غسيلها بعيداً عن ثياب أسرتها , ولبست خمار أبيض غطت به صفحة وجهها وصدرها ,وسخرت جُل وقتها للصلاة والصيام ,وكانت تأبى أن يناديها أحد باسمها ( روز) وتصر على أن تسمى بـ (فاطمة),وبعد فترة وجيزة تبعتها أختها الصغرى ,
فصارت أشبهَ بها من الزهرة بالزهرة !
ففزع الأب النصراني من هول ذلك, وانطلق بها إلى أحد الأساقفة, فأخذ يحاورها لكنه لم يفلح في إقناعها وإرجاعها ، ومن شدة حزن هذا الأب كتب إلى معتمد الدولة الأسبانية بأمر الأسرة الخارجة على دينها ، وهنالك أمر المعتمدُ فساقت ابنته فاطمة كما تساق المجرمات والآثمات ليلقوا بها في غيابة دير من الأديرة بلا أثم ولا جريمة.
سبب إسلام فاطمة :
كانت فاطمة تجلس في كرسيها بالقطار والهم واضح على قسمات وجهها، وتحمل من أهوال الحزن وأثقاله ما تنوء عن ثقله الجبال.
فتوجه الأستاذ وسألها : ما بالك يا فاطمة ؟
وكأنها أنست به إذ نادها باسمها الذي تحبُّ فأجابته متنهِّدةً بصوت يتعثر منه الأسى والضنى : أنه كان لهم جيرة مسلمون، وكانت تغدو إليهم وتستمع لأمر دينهم، وفي ليلة من الليالي بعد أن أخذها النوم رأيت النبي محمداً صلى الله عليه وسلم في هالة من نور يخطف سناها الأبصار, يقول وهو يلوِّح بيده: اقتربي يا فاطمة ، فلم تكد تتم كلامها حتى أخذتها رِعدةٌ فهوت على مقعدها، فلما أفاقت وسألها عن سبب خوفها وفزعها، ذكرت أنها سيؤمر بها إلى الدير,ومصدر خوفها وفزعها ليس من السياط، ولكن من أن يحال بينها وبين الصلاة .
قال لها : يا فاطمة ألا أدلك على خير من هذا ! قالت : أجل، قال : إن الإيمان في القلب فما عليك أن لو أقررت أمام المعتمد بدينك القديم حتى لا يؤمر بك إلى الدير، هنالك نظرت إليه نظرةً غاضبةً وقالت : إنها إن أطاعت نفسها فإن لسانها لن يطاوعها، ثم وصل القطار إلى محطة القاهرة وحيل بينه وبين الفتاة وانقطع خبرها وطويت صفحتها بين غياهب ذلك الدير ، كما طويت صفحات من سبقها ومن لحقها ممن اخترن طريق الحق وثبتن عليه ، ولم يجدن على الحق نصيرًا .
رحمك الله يا فاطمة ، ورحم الله كل من سلك هذا الدرب، وَثَبَتْ عليه .

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق